كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَهَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ جَامِعَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ نَفْعًا وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى طَوَائِفَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْبِدْعَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَيَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ إسْرَائِيلِيٍّ فِيهِ: أَنَّهُ قِيلَ لِذَلِكَ الدَّاعِيَةِ فَكَيْفَ بِمَنْ أَضْلَلْت وَهَذَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَلَيْسُوا مِنْ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ كَأَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ وَمَا يُحْتَجُّ بِهِ وَمَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ؛ بَلْ يَرْوُونَ كُلَّ مَا فِي الْبَابِ مُحْتَجِّينَ بِهِ. وَقَدْ حَكَى هَذَا طَائِفَةٌ قَوْلًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد أَوْ رِوَايَةً عَنْهُ وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ مَعَ مَذَاهِبِ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَمَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الدَّاعِي إلَى الْكُفْرِ وَتَوْبَةُ مَنْ فَتَنَ النَّاسَ عَنْ دِينِهِمْ. وَقَدْ تَابَ قَادَةُ الْأَحْزَابِ: مِثْلُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَالْحَارِثِ ابْنِ هِشَامٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ عَلَى الْكُفْرِ بِدُعَائِهِمْ مَنْ قُتِلَ وَكَانُوا مَنْ أَحْسَنِ النَّاسِ إسْلَامًا وَغَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}. وَعَمْرُو بْنُ العاص كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الدُّعَاةِ إلَى الْكُفْرِ وَالْإِيذَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَسْلَمَ: «يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَاسًا مِنْ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ أُولَئِكَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَعْبُدُونَهُمْ. فَفِي هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَضُرَّ الَّذِينَ أَسْلَمُوا عِبَادَةَ غَيْرِهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَهُمْ وَإِنْ كَانُوا هُمْ أَضَلُّوهُمْ أَوَّلًا.
وَأَيْضًا فَالدَّاعِي إلَى الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَإِنْ كَانَ أَضَلَّ غَيْرَهُ فَذَلِكَ الْغَيْرُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِهِ؛ لِكَوْنِهِ قَبِلَ مِنْ هَذَا وَاتَّبَعَهُ وَهَذَا عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَوِزْرُ مَنْ اتَّبَعَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَعَ بَقَاءِ أَوْزَارِ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ فَإِذَا تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَلَا مَا حَمَلَهُ هُوَ لِأَجْلِ إضْلَالِهِمْ وَأَمَّا هُمْ فَسَوَاءٌ تَابَ أَوْ لَمْ يَتُبْ حَالُهُمْ وَاحِدٌ؛ وَلَكِنَّ تَوْبَتَهُ قَبْلَ هَذَا تَحْتَاجُ إلَى ضِدِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الدُّعَاءِ إلَى الْهُدَى كَمَا تَابَ كَثِيرٌ مِنْ الْكُفَّارِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَصَارُوا دُعَاةً إلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ. وَسَحَرَةُ فِرْعَوْنَ كَانُوا أَئِمَّةً فِي الْكُفْرِ ثُمَّ أَسْلَمُوا وَخَتَمَ اللَّهُ لَهُمْ بِخَيْرِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَوْبَةُ قَاتِلِ النَّفْسِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ؛ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا تُقْبَلُ؛ وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ. وَحَدِيثُ قَاتِلِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ فِي الصَّحِيحَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَآيَةُ النِّسَاءِ إنَّمَا فِيهَا وَعِيدٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وَمَعَ هَذَا فَهَذَا إذَا لَمْ يَتُبْ. وَكُلُّ وَعِيدٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ وَعِيدُ الْقَاتِلِ لَاحِقًا بِهِ وَإِنْ تَابَ؟ هَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ؟ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ بِالْقَتْلِ؛ بَلْ التَّوْبَةُ تُسْقِطُ حَقَّ اللَّهِ وَالْمَقْتُولُ مُطَالِبُهُ بِحَقِّهِ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى الدَّيْنِ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الشَّهِيدُ يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الدَّيْنُ» لَكِنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ يُعْطَاهُ مِنْ حَسَنَاتِ الْقَاتِلِ. فَمِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ الْحَسَنَاتِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَا يُقَابِلُ حَقَّ الْمَقْتُولِ وَلَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَأَى أَنَّ الْقَتْلَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ بَعْدَ الْكُفْرِ فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِهِ حَسَنَاتٌ تُقَابِلُ حَقَّ الْمَقْتُولِ فلابد أَنْ يَبْقَى لَهُ سَيِّئَاتٌ يُعَذَّبُ بِهَا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَدْ يَقَعُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ فَيَبْقَى الْكَلَامُ فِيمَنْ تَابَ وَأَخْلَصَ: وَعَجَزَ عَنْ حَسَنَاتٍ تُعَادِلُ حَقَّ الْمَظْلُومِ هَلْ يُجْعَلُ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَقْتُولِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ؟ وَهَذَا مَوْضِعٌ دَقِيقٌ عَلَى مِثْلِهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يُنَافِي مُوجَبَ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ كُلَّ ذَنْبٍ الشِّرْكَ وَالْقَتْلَ وَالزِّنَا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْأَفْعَالِ مُطْلَقَةٌ فِي الْأَشْخَاصِ. وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: {اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} عَامٌّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقٌ فِي أَحْوَالِ.
الْأَرْجُلِ؛ إذْ قَدْ تَكُونُ مَسْتُورَةً بِالْخُفِّ وَاللَّفْظُ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَى الْأَحْوَالِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} عَامٌّ فِي الْأَوْلَادِ عَامٌّ فِي الْأَحْوَالِ؟ إذْ قَدْ يَكُونُ الْوَلَدُ مُوَافِقًا فِي الدِّينِ وَمُخَالِفًا وَحُرًّا وَعَبْدًا. وَاللَّفْظُ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَى الْأَحْوَالِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} عَامٌّ فِي الذُّنُوبِ مُطْلَقٌ فِي أَحْوَالِهَا؛ فَإِنَّ الذَّنْبَ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ تَائِبًا مِنْهُ وَقَدْ يَكُونُ مُصِرًّا وَاللَّفْظُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ بَلْ الْكَلَامُ يُبَيِّنُ أَنَّ الذَّنْبَ يُغْفَرُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِفِعْلِ مَا تُغْفَرُ بِهِ الذُّنُوبُ وَنَهَى عَمَّا بِهِ يَحْصُلُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلَا مَغْفِرَةٍ فَقَالَ: {وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} فَهَذَا إخْبَارٌ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذِّبُ نُفُوسًا لَمْ يَغْفِرْ لَهَا كَاَلَّتِي كَذَّبَتْ بِآيَاتِهِ وَاسْتَكْبَرَتْ وَكَانَتْ مِنْ الْكَافِرِينَ وَمِثْلُ هَذِهِ الذُّنُوبِ غَفَرَهَا اللَّهُ لِآخَرِينَ لِأَنَّهُمْ تَابُوا مِنْهَا. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}؟ قِيلَ: إنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ تَوْبَةَ الْكَافِرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ارْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ} أَيْ أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مُرْتَدِّينَ ظَالِمِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فَمَنْ ارْتَدَّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ إلَّا ضَالًّا لَا يَحْصُلُ لَهُ الْهُدَى إلَى أَيِّ دِينٍ ارْتَدَّ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَا يَغْفِرُ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَتُوبُوا. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ} وَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَهُوَ مُرْتَدٌّ قَالَ: {ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}. وَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ ذَكَرَ الْمُرْتَدِّينَ ثُمَّ ذَكَرَ التَّائِبِينَ مِنْهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَمَنْ مَاتَ كَافِرًا؛ فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ قَدْ ذَكَرُوا فِيهِمْ أَقْوَالًا: قِيلَ لِنِفَاقِهِمْ وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ تَابُوا مِمَّا دُونَ الشِّرْكِ وَلَمْ يَتُوبُوا مِنْهُ وَقِيلَ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ كَالْحَسَنِ وقتادة وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ والسدي: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ حِينَ يَحْضُرُهُمْ الْمَوْتُ فَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: ازْدَادُوا كُفْرًا ثَبَتُوا عَلَيْهِ حَتَّى مَاتُوا. قُلْت: وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّائِبَ رَاجِعٌ عَنْ الْكُفْرِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَإِنَّهُ مُسْتَمِرٌّ يَزْدَادُ كُفْرًا بَعْدَ كُفْرٍ فَقَوْلُهُ: {ثُمَّ ازْدَادُوا} بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ ثُمَّ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَدَامُوا عَلَى الْكُفْرِ فَهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ ثُمَّ زَادَ كُفْرُهُمْ مَا نَقَصَ فَهَؤُلَاءِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ وَهِيَ التَّوْبَةُ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَابَ قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ وَرَجَعَ عَنْ كُفْرِهِ فَلَمْ يَزْدَدْ بَلْ نَقَصَ؛ بِخِلَافِ الْمُصِرِّ إلَى حِينِ الْمُعَايَنَةِ فَمَا بَقِيَ لَهُ زَمَانٌ يَقَعُ لِنَقْصِ كُفْرِهِ فَضْلًا عَنْ هَدْمِهِ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وَذَكَرَ أَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا قِيلَ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا تَابَ غُفِرَ لَهُ كُفْرُهُ فَإِذَا كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ كَافِرًا حَبِطَ إيمَانُهُ فَعُوقِبَ بِالْكُفْرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَقَالَ: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» فَلَوْ قَالَ: إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي آلِ عِمْرَانَ فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ الْمُرْتَدُّ التَّائِبُ؛ فَهَذَا إذَا كَفَرَ وَازْدَادَ كُفْرًا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ كُفْرُهُ السَّابِقُ أَيْضًا فَلَوْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا لَمْ يَكُونُوا قَدْ ازْدَادُوا كُفْرًا فَلَا يَدْخُلُونَ فِي الْآيَةِ. وَالْفُقَهَاءُ إذَا تَنَازَعُوا فِي قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ أَوْ قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ فَذَاكَ إنَّمَا هُوَ فِي الْحُكْمِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوثَقُ بِتَوْبَتِهِ أَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ أَخْلَصَ التَّوْبَةَ لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. وَنَحْنُ حَقِيقَةُ قَوْلِنَا أَنَّ التَّائِبَ لَا يُعَذَّبُ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ لَا شَرْعًا وَلَا قَدَرًا وَالْعُقُوبَاتُ الَّتِي تُقَامُ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ إمَّا أَنْ يَثْبُتَ سَبَبُهَا بِالْبَيِّنَةِ مِثْلَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّهُ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ فَهَذَا إذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ لَمْ يُوثَقْ بِهَا وَلَوْ دُرِئَ الْحَدُّ بِإِظْهَارِ هَذَا لَمْ يَقُمْ حَدٌّ فَإِنَّهُ كُلُّ مَنْ تُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ يَقُولُ قَدْ تُبْت وَإِنْ كَانَ تَائِبًا فِي الْبَاطِنِ كَانَ الْحَدُّ مُكَفِّرًا وَكَانَ مَأْجُورًا عَلَى صَبْرِهِ وَأَمَّا إذَا جَاءَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَاعْتَرَفَ وَجَاءَ تَائِبًا فَهَذَا لَا يَجِبُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد نَصَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ التَّعْلِيقِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهَا الْقَاضِي بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ وَحَدِيثِ الَّذِي قَالَ: أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ يَدْخُلُ فِي هَذَا لِأَنَّهُ جَاءَ تَائِبًا وَإِنْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا شَهِدَ بِهِ مَاعِزٌ والغامدية وَاخْتَارَ إقَامَةَ الْحَدِّ أُقِيمَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا. كَمَا فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ: «فَهَلَّا تَرَكْتُمُوهُ» والغامدية رَدَّهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. فَالْإِمَامُ وَالنَّاسُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مِثْلِ هَذَا؛ وَلَكِنْ هُوَ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ أُقِيمَ عَلَيْهِ كَاَلَّذِي يُذْنِبُ سِرًّا وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ حَدًّا: لَكِنْ إذَا اخْتَارَ هُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ وَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أُقِيمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَائِبًا وَهَذَا كَقَتْلِ الَّذِي يَنْغَمِسُ فِي الْعَدُوِّ هُوَ مِمَّا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَتَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مُكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ وَهَلْ وَجَدْت أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ».
وَقَدْ قِيلَ فِي مَاعِزٍ إنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: سَقَطَ الْحَدُّ لِكَوْنِهِ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ وَيَقُولُونَ رُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ مَقْبُولٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ بَلْ فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ أَقَرَّ تَائِبًا وَمَنْ أَقَرَّ غَيْرَ تَائِبٍ فَإِسْقَاطُ الْعُقُوبَةِ بِالتَّوْبَةِ- كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ- أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِهَا بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ؛ وَالْإِقْرَارُ شَهَادَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ وَلَوْ قَبِلَ الرُّجُوعَ لَمَا قَامَ حَدٌّ بِإِقْرَارِ فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ التَّوْبَةُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا فَالرُّجُوعُ الَّذِي هُوَ فِيهِ كَاذِبٌ أَوْلَى. آخِرُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ- رَحِمَهُ اللَّهُ-:
عَنْ قَوْله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَاتَ مِنْ الْفَزَعِ وَشِدَّةِ الصَّوْتِ {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ}.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفِيُّ الصُّوفِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الرَّمْلِيُّ ثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: «{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} مَن الَّذِي لَمْ يَشَأ اللَّهُ أَنْ يَصْعَقَهُمْ؟ قَالَ: هُمْ الشُّهَدَاءُ مُتَقَلِّدِينَ سُيُوفَهُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ» وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ والسدي وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ جِبْرِيلُ وميكائيل وَإِسْرَافِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ.
{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ} يَعْنِي الْخَلْقَ كُلُّهُمْ قِيَامٌ عَلَى أَرْجُلِهِمْ {يُنْظَرُونَ} مَا يُقَالُ لَهُمْ وَمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ. هَذَا كَلَامُ الْوَاحِدِيِّ فِي كِتَابِ الْوَسِيطِ. بَيِّنُوا لَنَا حَقِيقَةَ الصعوق هَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَوْتِ فِي حَقِّ الْمَذْكُورِينَ؟. وَحَقِيقَةَ الِاسْتِثْنَاءِ؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يَمُوتُونَ حَتَّى الْمَلَائِكَةُ وَحَتَّى عِزْرَائِيلُ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى إمْكَانِ ذَلِكَ وَقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَوْتُهَا بِحَالِ؛ بَلْ هِيَ عِنْدَهُمْ آلِهَةُ وَأَرْبَابُ هَذَا الْعَالَمِ. وَالْقُرْآنُ وَسَائِرُ الْكُتُبِ تَنْطِقُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَبِيدٌ مدبرون كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمِيتَهُمْ ثُمَّ يُحْيِيَهُمْ كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى إمَاتَةِ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ ثُمَّ إحْيَائِهِمْ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ إذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ أَخَذَ الْمَلَائِكَةَ غَشْيٌ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إذَا سَمِعَتْ الْمَلَائِكَةُ كَلَامَهُ صُعِقُوا» وَفِي رِوَايَةٍ: «سَمِعَتْ الْمَلَائِكَةُ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ فَيُصْعَقُونَ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ فَيُنَادُونَ الْحَقَّ الْحَقَّ». فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُمْ يُصْعَقُونَ صعوق الْغَشْيِ فَإِذَا جَازَ عَلَيْهِمْ صعوق الْغَشْيِ جَازَ عَلَيْهِمْ صعوق الْمَوْتِ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَا يُجَوِّزُونَ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وصعوق الْغَشْيِ هُوَ مِثْلُ صعوق مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ بِثَلَاثِ نَفَخَاتٍ: نَفْخَةِ الْفَزَعِ ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}. وَنَفْخَةِ الصَّعْقِ وَالْقِيَامِ ذَكَرَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}.
وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِمَنْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا مَوْتٌ وَمُتَنَاوِلٌ لِغَيْرِهِمْ وَلَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِكُلِّ مَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ فِي كِتَابِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَأَجِدُ مُوسَى آخِذًا بِسَاقِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي هَلْ أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ» وَهَذِهِ الصَّعْقَةُ قَدْ قِيلَ إنَّهَا رَابِعَةٌ وَقِيلَ إنَّهَا مِنْ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْقُرْآنِ؛ وَبِكُلِّ حَالٍ النَّبِيُّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَقَّفَ فِي مُوسَى هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ أَمْ لَا؟ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْزِمْ بِكُلِّ مَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نَجْزِمَ بِذَلِكَ وَصَارَ هَذَا مِثْلُ الْعِلْمِ بِقُرْبِ السَّاعَةِ وَأَعْيَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ وَهَذَا الْعِلْمُ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْخَبَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. اهـ.